الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
وقال الحسن والضحاك: جاثية على الركب. وهو على هذا التأويل جمع جاثٍ على ما تقدّم. وذلك لضيق المكان؛ أي لا يمكنهم أن يجلسوا جلوسًا تامًا. وقيل: جثيًا على ركبهم للتخاصم؛ كقوله تعالى: {ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ القيامة عِندَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ} [الزمر: 31]. وقال الكميت: قوله تعالى: {ثُمَّ لَنَنزِعَنَّ مِن كُلِّ شِيعَةٍ} أي لنستخرجن من كل أمة وأهل دين {أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرحمن عِتِيًّا} النحاس: وهذه آية مشكلة في الإعراب؛ لأن القراء كلهم يقرؤون {أيهم} بالرفع إلا هارون القارىء الأعور فإن سيبويه حكى عنه: {ثم لننزِعن مِن كل شِيعةٍ أَيَّهُمْ} بالنصب أوقع على أيهم لننزعن.قال أبو إسحاق في رفع {أيهم} ثلاثة أقوال؛ قال الخليل بن أحمد حكاه عنه سيبويه: إنه مرفوع على الحكاية؛ والمعنى: ثم لننزعن من كل شيعة الذي يقال من أجل عتوه أيهم أشدّ على الرحمن عتيا؛ وأنشد الخليل، فقال: أي فأبيت بمنزلة الذي يقال له لا هو حَرِج ولا محروم.وقال أبو جعفر النحاس: ورأيت أبا إسحاق يختار هذا القول ويستحسنه؛ قال: لأنه معنى قول أهل التفسير. وزعم أن معنى {ثم لننزعن من كل شيعة} ثم لننزعن من كل فرقة الأعتى فالأعتى. كأنه يبتدأ بالتعذيب بأشدّهم عتيا ثم الذي يليه؛ وهذا نص كلام أبي إسحاق في معنى الآية. وقال يونس: {لننزعن} بمنزلة الأفعال التي تلغى ورفع {أيهم} على الابتداء.المهدوي: والفعل الذي هو {لننزعن} عند يونس معلق؛ قال أبو علي: معنى ذلك أنه يعمل في موضع {أيهم أشدّ} لا أنه ملغى. ولا يعلق عند الخليل وسيبويه مثل {لننزعن}، إنما يعلق بأفعال الشك وشبهها ما لم يتحقق وقوعه. وقال سيبويه: {أَيُّهُمْ} مبني على الضم لأنها خالفت أخواتها في الحذف؛ لأنك لو قلت: رأيت الذي أفضل ومن أفضل كان قبيحًا، حتى تقول من هو أفضل، والحذف في {أيهم} جائز.قال أبو جعفر: وما علمت أحدًا من النحويين إلا وقد خطأ سيبويه في هذا، وسمعت أبا إسحاق يقول: ما يبين لي أن سيبويه غلط في كتابه إلا في موضعين هذا أحدهما؛ قال: وقد علمنا أن سيبويه أعرب أيًا وهي مفردة لأنها تضاف، فكيف يبنيها وهي مضافة؟! ولم يذكر أبو إسحاق فيما علمت إلا هذه الثلاثة الأقوال.أبو عليّ: إنما وجب البناء على مذهب سيبويه؛ لأنه حذف منه ما يتعرف به وهو الضمير مع افتقار إليه، كما حذف في: {من قبل ومن بعد} ما يتعرفان به مع افتقار المضاف إلى المضاف إليه؛ لأن الصلة تبين الموصول وتوضحه كما أن المضاف إليه يبين المضاف ويخصصه.قال أبو جعفر: وفيه أربعة أقوال سوى هذه الثلاثة التي ذكرها أبو إسحاق؛ قال الكسائي: {لننزعن} واقعة على المعنى، كما تقول: لبست من الثياب، وأكلت من الطعام، ولم يقع {لننزعن} على {أيهم} فينصبها. زاد المهدوي: وإنما الفعل عنده واقع على موضع {من كل شيعة} وقوله: {أيهم أشد} جملة مستأنفة مرتفعة بالابتداء؛ ولا يرى سيبويه زيادة {من} في الواجب.وقال الفراء: المعنى ثم لننزعن بالنداء، ومعنى {لننزعن} لننادين.المهدوي: ونادى فعل يعلق إذا كان بعده جملة، كظننت فتعمل في المعنى ولا تعمل في اللفظ.قال أبو جعفر: وحكى أبو بكر بن شقير أن بعض الكوفيين يقول في {أيهم} معنى الشرط والمجازاة، فلذلك لم يعمل فيها ما قبلها؛ والمعنى: ثم لننزعن من كل فرقة إن تشايعوا أو لم يتشايعوا، كما تقول: ضربت القوم أيهم غضب؛ والمعنى إن غضبوا أو لم يغضبوا.قال أبو جعفر: فهذه ستة أقوال، وسمعت علي بن سليمان يحكي عن محمد بن يزيد قال: {أيهم} متعلق {بشيعة} فهو مرفوع بالابتداء؛ والمعنى: ثم لننزعن من الذين تشايعوا أيهم؛ أي من الذين تعاونوا فنظروا أيهم أشدّ على الرحمن عتيًا؛ وهذا قول حسن.وقد حكى الكسائي أن التشايع التعاون.و{عتيا} نصب على البيان.قوله تعالى: {ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بالذين هُمْ أولى بِهَا صِلِيًّا} أي أحق بدخول النار.يقال: صَلَى يَصْلَى صُليا، نحو مضى الشيء يمضي مُضِيا إذا ذهب، وهوى يهوي هُوِيا.وقال الجوهري: ويقال صليت الرجل نارًا إذا أدخلته النار وجعلته يَصلاها؛ فإن ألقيته فيها إلقاء كأنك تريد الإحراق قلت: أصليته بالألف وصَلَّيته تصليةً. وقرئ {ويُصَلَّى سَعِيرًا}. ومن خفف فهو من قولهم: صَلِي فلان بالنار (بالكسر) يصلى صُلِيًا احترق؛ قال الله تعالى: {هُمْ أَوْلَى بِهَا صُلِيًّا}. قال العجاج: ويقال أيضًا: صلي بالأمر إذا قاسى حره وشدّته.قال الطُّهَوِي: واصطليت بالنار وتصلّيت بها.قال أبو زبيد: وفلانٌ لا يُصطَلَى بناره إذا كان شجاعًا لا يُطاق.قوله تعالى: {وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا كَانَ على رَبِّكَ حَتْمًا مَّقْضِيًّا}.فيه خمس مسائل:الأولى: قوله تعالى: {وَإِن مِّنكُمْ} هذا قسم، والواو يتضمنه.ويفسره حديث النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يموت لأحد من المسلمين ثلاثة من الولد فتمسه النار إلا تَحِلَّة القسم» قال الزهري: كأنه يريد هذه الآية: {وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا} ذكره أبو داود الطيالسي؛ فقوله: «إلا تحِلة القسم» يخرج في التفسير المسند؛ لأن القسم المذكور في هذا الحديث معناه عند أهل العلم قوله تعالى: {وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا}. وقد قيل: إن المراد بالقسم قوله تعالى: {والذاريات ذَرْوًا} [الذاريات: 1] إلى قوله: {إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ وَإِنَّ الدين لَوَاقِعٌ} [الذاريات: 5] والأوّل أشهر؛ والمعنى متقارب.الثانية: واختلف الناس في الورود؛ فقيل: الورود الدخول؛ روي عن جابر بن عبد الله قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «الورود الدخول لا يبقى بَرٌّ ولا فاجر إلا دخلها فتكون على المؤمنين بردًا وسلامًا كما كانت على إبراهيم {ثُمَّ نُنَجِّي الذين اتقوا وَّنَذَرُ الظالمين فِيهَا جِثِيًّا}». أسنده أبو عمر في كتاب (التمهيد). وهو قول ابن عباس وخالد بن معدان وابن جريج وغيرهم.وروي عن يونس أنه كان يقرأ: {وإن منكم إلا وارِدها} الورود الدخول؛ على التفسير للورود، فغلط فيه بعض الرواة فألحقه بالقرآن. وفي مسند الدارمي عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يرد الناس النار ثم يصدرون منها بأعمالهم فأوّلهم كلمح البرق ثم كالريح ثم كحُضْر الفرس ثم كالراكب المجِدّ في رَحْله ثم كشدّ الرجل في مشيته» وروي عن ابن عباس أنه قال في هذه المسألة لنافع بن الأزرق الخارجي: أما أنا وأنت فلابد أن نردها، أما أنا فينجيني الله منها، وأما أنت فما أظنه ينجيك لتكذيبك.وقد أشفق كثير من العلماء من تحقق الورود والجهل بالصدر؛ وقد بيناه في (التذكرة).وقالت فرقة: الورود الممر على الصراط.وروي عن ابن عباس وابن مسعود وكعب الأحبار والسدي، ورواه السدي عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقاله الحسن أيضًا؛ قال: ليس الورود الدخول، إنما تقول: وردت البصرة ولم أدخلها.قال: فالورود أن يمرّوا على الصراط.قال أبو بكر الأنباري: وقد بنى على مذهب الحسن قوم من أهل اللغة، واحتجوا بقول الله تعالى: {إِنَّ الذين سَبَقَتْ لَهُمْ مِّنَّا الحسنى أولئك عَنْهَا مُبْعَدُونَ} قالوا: فلا يدخل النار من ضمن الله أن يبعده منها.وكان هؤلاء يقرؤون {ثَمَّ} بفتح الثاء {نُنَجِّي الَّذينَ اتَّقَوْا}.واحتج عليهم الآخرون أهل المقالة الأولى بأن معنى قوله: {أولئِك عنها مبعدون} عن العذاب فيها، والإحراق بها.قالوا: فمن دخلها وهو لا يشعر بها، ولا يحس منها وجعًا ولا ألمًا، فهو مبعد عنها في الحقيقة.ويستدلون بقوله تعالى: {ثُمَّ نُنَجِّي الذين اتقوا} بضم الثاء؛ ف {ثم} تدل على نجاء بعد الدخول.
|